٣٠
اليوم أتممت عامي الثلاثين.. أقول لنفسي: تبًا لك ياشيخ
اليوم وأنا أنظر إلى عينيّ الثلاثينية في المرآة، تذكرت أبيات فيصل آل جبعاء، يقول:
انظر إلى عينيك في المرآة..
كم شخصاً ترى؟!
كم عبرةً عبرت وكم شوقاً أقام؟
كم صفعةٍ سكنت بخدّك تحت بسمتك الخجولة
كم مرةٍ هُجِّرت من أرض الشباب..
وخُلعت من عرش الطفولة
الآن قل لي أين أنت؟
أمعلَّقٌ بين المراحل والفصول؟
لم ألقَ في وجهي الغريب سوى ملامحه الجديدةِ..
لم يكن وجهاً أنيقاً كالقصيدة..
اخلع قناعك ياصديقي..
والآن قل.. هل أنت أنت؟!
هُجّرنا يافيصل قسرا من أرض الشباب، مبكرا جدا ياصديقي، وخُلعنا بلا رحمة من عرش الطفولة.. ما أجمل عرش الطفولة يافيصل، ما أسهله.
تلقينا الصفعات تباعًا، ودفنّاها بكبرياء تحت بسمتنا الخجولة، حتى ظن الناس أن يد الحياة لم تطل وجوهنا الباسمة.
والآن بوجوهنا الغريبة، نقف معلقين بين المراحل والفصول، نقلّب في صفحات الماضي حسنه وسيئه، نحاول تغليب الصفحات البيضاء على السوداء، نحاول أن نرى النور في العتمة، لننظر به إلى المستقبل.
إلى المستقبل؟ يقول سعد علوش..
إلى المستقبل المظلم، أو المنور
بتمشي له.. بإيمان.. أو بدون إيمان
تبي ترجع مثل ما كنت؟ ما تقدر
لأن الوقت ما يرجع مثل ماكان
فـ اذاك إنسان.. لاتطمح تكون شي أكبر
ترا جدًا عظيم أنك تكون إنسان
أبشر ياسعد، سنختار أن نمشي إلى المستقبل بإيمان، لأنه الخيار المنطقي الوحيد. ولأن أحداث الزمن حتميّة، سنختار على الأقل.. أن نمشي لها بإيمان، أن ننزل من أعالي آمالنا العظيمة، إلى قيعان إنسانيتنا البسيطة.. ونمشي بإيمان.
كم عشتُ وكم رأيت وكم جربت في هذه الثلاثين، ما أوسع الحياة لما تتسع، وما أضيقها لما تضيق.. ما أجملها في الربيع وما أتعسها في الصيف.
كل عام تمرّ ذكرى الميلاد على حال، فالعام الماضي كان الأسوأ بلاشك، وهذه السنة بين بين، والقادم أجمل باذن الله.
بعيدًا عن الدراما، سأحاول النظر من بعيد إلى يومي هذا المتمم لعامي الثلاثين، وأخفف عن نفسي الآلام الجديدة، بتذكر النعم القديمة. في عمر حافل بالإنجاز والتجارب والنجاحات والفشل، الكثير الكثير من الحركة، الكثير من نعم الله العظيمة، والكثير من الفعاليات.
بنيت نفسي من الصفر! بعد الألف
لو سُئلت قبل خمس أعوام عن طفولتي وحظوظي من المستوى المعيشي لعائلتي، لقُلت أنها عادية، وأن أي نجاح حققته ليس مرتبطا بأي أفضال من أهلي عليّ، أو من ظروف حياتي في سنواتي الأولى.
كنت أرى أنني -بدأت من الصفر- كما يقولون، لأن أبي لم يعطني مالا أبدأ فيه حياتي العملية، ولم يدعمني أحد بـ"واسطة" لأصل إلى مكان، وكانت كثير من الظروف ضدي لأني مقيم ولا أحمل الجنسية. كل نجاحاتي حقتها بنفسي، كل أموالي جمعتها بنفسي، كل شبكة معارفي بنيتها بنفسي -أو كما ظننت جاهلا-.
لمّا كبرت، اكتشفت أن الصفر الذي انطلقت منه كان ألفًا، لم يكن صفرًا.. فأبي الأكاديمي في جامعة الملك فهد للبترول والمعادن، جعل نشأتي في بيئة تعليمية عالية، وجعل محيطي الاجتماعي في أول ٢٠ سنة من عمري محيطا متعلما وراقيا جدا، مما عزلني عن كثير من جوانب الحياة المظلمة التي لم أكن أعرفها أصلا. أبي المستقر ماليًا لم يجعلني أفكر يوما بالعوز والحاجة، استطعت أن أتفرغ لكثير من الأفكار والآمال، لأن "أمي وأبوي جائعون اليوم، يجب أن أطعمهم" لم تكن فكرة تشغل بالي.
أو "ثلاجتنا فارغة يا حاتم" أو "لن نأكل الدجاج أو اللحم هذا الشهر" أو "سنضطر للخروج من هذا المنزل وسنغير مدرستك لأننا لا نستطيع دفع الإيجار" أو أو أو، كثير من الظروف المعيشية التي لم أعشها، أبعدتني كثيرا عن الصفر، لكنني لم أفطن لذلك، لأنني لم أكن أعرف ماهو الصفر أصلا.
أمي وأبي كانا في بيت واحد، يحترم كلٌّ منهم الآخر، لم أرى أبي يضرب أمي، ولا أمي تشتمه أو لا تحترمه، كم أبعدني هذا عن الصفر عاطفيا ونفسيا؟ كيف جعلتني علاقتهم المستقرة إنسانا مستقرا مع نفسي ومع مجتمعي ومع زوجتي لاحقا؟ كم أنا بعيد عن الصفر، وكم أنا أحمق لما تجاهلت أثر كل تلك النعم على حياتي.
بسبب نعم الله تلك، كنت قادرا على تعلم مهارات عديدة وممارسة هوايات مختلفة. كم هو بعيد عن الصفر أن تمارس هواية. أن تجد الوقت والمال والاستقرار النفسي والصفاء الذهني أن تكون لك هواية، أن تجد مالا لشراء كاميرا، أو ألوان، أو جوال به انترنت، أو أن تكون قادرا على التنقل بحرية والذهاب إلى فعاليات تطوعية، أن تعرف اللغة الانقليزية لتتعلم وتتطور.
كل تلك المراحل التي صنعتني، كنت أراها من زاوية ضيقة حمقاء، أنا الذي تعلمت التصوير، وطورت نفسي، وشاركت في فرق تطوعية وبدأ الناس يعرفونني. أنا الذي قدمت دورات في التصوير وعمري ١٧، واستلمت بنفسي أول راتب لي، أنا الذي جمعت مالي، أنا الذي صنعت اسمي، أنا الذي كتبت في تويتر وأصبحت مشهورا، أنا الذي بدأت مربع وحدي..أنا أنا أنا، تبا لك ياشيخ.
أمي كانت حريصة دوما على الأنشطة غير الصفية، كانت تتابع شخصيا تطوري في المدرسة، تتواصل مع مدير المدرسة -رحمه الله- بشكل مستمر، تسجلني رغما عني في كل المسابقات والأنشطة والفعاليات، تزود في شنطة الأكل عصيرا وشطيرة لأنني لن أعود مبكرا، تخطط وتراقب وتعمل، ثم بعد كل تلك السنوات: أنا صنعت نفسي وشاركت في أنشطة اجتماعية كثيرة وصرت شخصا اجتماعيا، تبا لك ياشيخ.
مدرستي -مدارس الجامعة- كانت أقوى مدرسة أهلية في المملكة العربية السعودية، وكنا المركز الأول في درجات القدرات والتحصيلي، كانوا يضيفون حصص للمواد العلمية أكثر مما تطلبه الوزارة، ويرفضون الطلاب الفاشلين حتى وإن دفعوا الأموال، وكان المدير -أحمد الرتوعي- رحمه الله، مربيا فاضلا حريصا علينا فردا فردا، كان يقف بعد صلاة الظهر أمام الطلاب كلهم، ويقول أننا لن نرضى بالنزول من المركز الأول على مستوى المملكة، وأن أي طالب مستهتر، لن يكمل معنا السنة القادمة، وأن قائمة الانتظار طويلة، لن نجامل أحدًا. ثم آتي بعد سنوات، وأتفاخر بدرجاتي العالية في اختبار القدرات، لأنني "أنا" جبت ٩٢ في اختبار القدرات، تبا لك ياشيخ.
ولما قررت الخروج من الجامعة وعمري ٢٠، أتيت إلى جدة وحدي، ولم يكن معي إلا ما يكفي الأكل والشرب لأيام معدودة، اتصلت ببعض الأصدقاء ووجدت وظيفة خلال أيام، مع أنني بلا شهادة ولا خبرة، ولكن كانت خبرتي -تويتر- وكان صديقي عمار يبدأ شركة جديدة في التسويق الرقمي، ويحتاج خبراء في تويتر! فوجدت وظيفة -مع أن راتبي كان ٣ آلاف ريال- لكنها كانت بداية.
حسنًا، بدأ كبريائي ينزعج من كثرة شكر الآخرين، آسف يا كبريائي وآسف يا نفسي، صحيح أنك اجتهدتِ وحاولتِ وتحملتِ أياما صعبة ومصائر مجهولة، لكن اليوم ليس لك.. اليوم للآخرين.
الحمدلله لله على حياتي العظيمة، شكرا لأمي وأبي على كل درجة رفعوني فيها عن الصفر، لأنطلق بحياتي بعدها من مكان عال جدًا.
شكرا لمدارس الجامعة، لكل مدرّسة درستني في الحضانة والصفوف الأولية، وكل مدرّس مخلص، وإداري عمل في الخفاء بذمة وضمير، فانعكس ذلك عليّ وأنا لا أدري.
شكرا للتحفيظ ومدرسيه الذين احتووني وملأوا فراغات كان ممكنا أن تذهب في ظلامات أصدقاء السوء والمخدرات.
شكرا لتميم البرغوثي لأنه كان بوابتي إلى الشعر وجماله، وأصبحت بعده أكتب الشعر وأشاركه.
شكرا لكل من تابعني في "فلكر" بداية اهتمامي بالتصوير، كانت أول مرة أتلقى كلمات الإعجاب والدعم.
شكرا لموهبة ٢٠١١، وكل القائمين على موهبة، كانت أول مرة أعمل فيها وأكسب المال الحلال، وأنخرط في فريق كامل.
شكرا لإثراء ٢٠١٢، كانت أول وظيفة كشخة لي، في برنامج صيفي كمدرب للتصوير، صقلت شخصيتي كثيرا ووسعت معارفي.
شكرا لعبدالله الحواس وإسراء الغنيم أنهم أسسوا "كان ياما" ٢٠١٣، كانت أول تجربة لي في العمل التطوعي، صقلت شخصيتي كثيرا.
شكرا عمار بن صديق، أنك أسست شركتك في سن مبكرة ومنحتني أول وظيفة رسمية حقيقية.
شكرا فايا، وجاك و ميم عين، شركات ناشئة عملت بها ووثقوا بي.
شكرا مربع، كل من استمع، وشارك، ودعم وساند، حتى أصبح واحدا من أكبر البرامج في العالم العربي.
شكرا أفنان العصلاني وجوري جلال، على عملكم معي في مربع تطوعا لفترة، ولما انضممت لثمانية قلت "كنت لحالي ١٠٠٪" تبا لك ياشيخ.
شكرا لكل من أعلن في مربع، صرتُ مليونيرًا لوهلة، واستقرت حياتي ماليا لأول مرة.
شكرا ثمانية، وعبدالرحمن أبو مالح، للأبد. 🫶🏻
شكرا عبدالكريم العدواني، كان مربع مع ثمانية الكثير منك والقليل مني.
شكرا للسعودية، أمنها واستقرارها وأموالها التي منحتني حياة كريمة، مؤسساتها التي أعطت مربع بيئة للنمو، شعبها الغني بالقصص والعلم والثقافة الذي كانت وقود مربع.
شكرا للمتابعين المخلصين في كل المنصات والأزمنة، والله حبكم ودعمكم ورسائلكم عزيزة على قلبي، وعمود أساسي في حياتي.
شكرا لكل من نسيتهم، أو رفعوني عن الصفر وأنا لا أعلم.
سأطوي الآن كل الصفحات، سأقفل الدفتر، وأفتح دفترًا جديدًا.
أبدأه مشبعا بتجارب عظيمة، وخبرات متنوعة، وحكمةً لابأس بها.
أبًا وزوجًا، رائد أعمال مستقر ماليا، أؤسس الآن شركة جديدة تمشي بخطى مبشرة بالخير، وأخطط لعودتي لعالم صناعة المحتوى، ومتفائل بعودة قوية بإذن الله برغم التحديات العظيمة.
والخاتمة، لأم ملك.. حبيبة عمري ❤️
أيا رفيقةَ دربي!.. لو لديّ سوى
عمري.. لقلتُ: فدى عينيكِ أعماري
أحببتني.. وشبابي في فتوّتهِ
وما تغيّرتِ.. والأوجاعُ سُمّاري
منحتني من كنوز الحُبّ.. أَنفَسها
وكنتُ لولا نداكِ الجائعَ العاري
ماذا أقولُ؟ وددتُ البحرَ قافيتي
والغيم محبرتي.. والأفقَ أشعاري
إنْ ساءلوكِ فقولي: كان يعشقني
بكلِّ ما فيهِ من عُنفٍ.. وإصرار
وكان يأوي إلى قلبي.. ويسكنه
وكان يحمل في أضلاعهِ داري
وإنْ مضيتُ.. فقولي: لم يكنْ بَطَلاً
لكنه لم يقبّل جبهةَ العارِ



أعوام مديدة سعيدة ان شاء الله.
بما اني أول ما عرفتك في تويتر عرفت حاتم الشاعر.. في بيتين لك من 2016 تقريبًا أحبهم جدًا :
" قلبي الصغير؛ وصيتان عليك فيهم بالعمل
حافظ على ما قد تبقى من أمل ..
إياك من أشواك درب الحلم يومًا أن تمل"
تأثرت جدًا جدًا بالمنشور
كل عام وانت بخير وكل اللي تحبهم